وإنه لمما يدعو إلي العجب في عصرنا أن يتعصب البعض لفكر بعينه اعتنقه لينصب من نفسه حكما علي أفكار الآخرين, فيرمي فكر هذا بالتخلف والجمود, وفكر ذاك بالإلحاد, وفكر غيرهما بالتميع وعدم صلابته في الحق, ونحو هذا من الأحكام التي صارت تلقي جزافا دون تدبر أو روية, وقد كان كثير من السلف يتورع عن إلقائها مخافة المآثم إذا لم تكن أفكار مخالفيهم علي نحو ما قالوا وقد نشأ عن هذا التعصب الفكري في عصرنا من المفاسد ما لم يعد خافيا علي أحد, من اعتداء علي الأنفس والأموال والأمن العام, واستباحة ما حرم الله سبحانه بعلل عليلة لا تقنع الأريب أو ترقي إلي لب اللبيب ورحم الله سلفنا الصالح الذين نبذوا هذا التعصب الممقوت رغم علو كعبهم في مجال المناظرة والجدل, وبلوغهم جميعا رتبة من الاجتهاد في علوم الشريعة لا يدعيها لنفسه أحد من رموز الفكر الإسلامي في عالمنا المعاصر, فلم يؤثر عن أحد منهم أنه حكم علي فكر غيره بالإلحاد أو الكفر أو أنه أخرج عن الملة من يخالفه في الرأي, ما لم يخالف أصلا شرعيا أو يتهجم علي شرع الله سبحانه. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يتعصب لرأيه وأخذ برأي امرأة مسلمة, حينما رأي من بعض الناس مغالاة في المهور, فأراد أن يجعل للمهور حدا أعلي لا يتجاوزه أحد, فلما هم بأن يدعو الناس إلي ذلك انبرت اليه امرأة فقالت: ليس هذا إليك يا عمر, كيف تقولها والله تعالي يقول:( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) فسكت أمير المؤمنين وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر وقد كان رضي الله عنه يتردد في قتل الجماعة بقتلهم واحدا, فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرأيت لو أن قوما اشتركوا في سرقة جزور, فأخذ هذا عضوا وهذا عضوا, أكنت قاطعهم؟ قال: نعم قال: فكذلك هؤلاء فنزل عمر علي رأيه وكتب إلي عامله ليقتل امرأة وخليلها, اشتركا في قتل ابن زوجها, وقال: لو اشترك أهل صنعاء كلهم في قتله لقتلتهم به وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم يتعصب لرأيه وافترض فيه الخطأ قبل إبدائه, حينما سئل عن المفوضة, التي مات عنها زوجها ولم يسم لها مهرا في عقد نماحها, إذ قال ابن مسعود: أقول فيه برأيي, فإن يك صوابا فمن الله ورسوله, وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله بريئان. وقد نحا التابعون وتابعوهم هذا المنحي, فهذا أبو حنيفة رضي الله عنه يقول: قولنا هذا رأي, وهو أحسن ما قدرنا عليه, فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولي بالصواب منا وقد قال له بعض جلسائه, وقد صدرت عنه فتوي في مسألة عرضت عليه: يا أبا حنيفة هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه؟ فقال: والله لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه وقال زفر: كنا نختلف إلي أبي حنيفة, ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن, فكنا نكتب عنه ما يقول, فقال يوما لأبي يوسف: ويحك يا يعقوب, لا تكتب كل ما تسمعه مني, فإني قد أري الرأي اليوم فأتركه غدا, وأري الرأي غدا فأتركه بعد غد وروي عن الشافعي انه قال: رأينا صواب يحتمل الخطأ, ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب وروي الربيع عنه قوله: ما من أحد إلا وتذهب عنه سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وتعزب, فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم خلاف فالقول ما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو قولي وجعل يردد هذا الكلام.. وروي البويطي عنه قوله: لقد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها, ولابد أن يوجد فيها الخطأ لأن الله تعالي قال:( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري: إياكم أن تبادروا إلي الإنكار علي قول مجتهد أو تخطئته إلا بعد إحاطتكم بأدلة الشريعة كلها, ومعرفتكم بجميع لغات العرب التي احتوت عليها الشريعة, ومعرفتكم بمعانيها وطرقها, فإذا أحطتم بها كما ذكرنا ولم تجدوا ذلك الأمر الذي أنكرتموه فيها, فحينئذ لكم الإنكار, والخيار لكم, وأني لكم ذلك فحري بنا أن نتأسي بهؤلاء الأئمة الأعلام, فننبذ التعصب الفكري كما نبذوه ولم يتردوا في مهاويه المهلكة, كما هو حادث الآن لكثيرين.
المصدر الاهرام المسائي -
بقلم:د. عبدالفتاح إدريس |
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق