نشرت صحيفة الجارديان البريطانية وصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية مؤخرا تسريبات عن مشروع مخابراتي تقوم به وكالة الأمن القومي الأمريكية اسمه الكودي' ريزيم' بدأ في2007 تحت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش الهدف منه مراقبة مستخدمي الإنترنت في العالم كله والتجسس علي كل تحركاتهم واتصالاتهم في الفضاء الرقمي.
فتقوم الوكالة بجمع وتخزين نسخ من الملفات الصوتية والصور والفيديوهات والمكالمات التليفونية ونصوص الدردشات عبر الإنترنت ورسائل البريد الإلكتروني والملفات المرفقة بها إن وجدت وسجلات استخدام الانترنت وقائمة بالمواقع التي تمت زيارتها وكلمات وعبارات البحث الخاصة بالمشتركين في خدمات تسع شركات أمريكية في مجال الإنترنت هي: مايكروسوفت, ياهو, جوجل, فيسبوك, بالتوك, أمريكا أونلاين, سكايب, يوتيوب, أبل. بالإضافة إلي كل البيانات الموجوة في مراكز تخزين البيانات الموجودة في الولايات المتحدة, وكل تيار البيانات الذي يمر في كابلات الإنترنت بالأراضي الأمريكية.
هذه الملفات قد تحتوي علي معلومات شخصية, أو أسرار صناعية خاصة بشركة أو مؤسسة, أو اتصالات ذات طابع عسكري وأمني تخص دولة من الدول, أو تفاصيل صفقات تجارية, أو حسابات بنكية وغيرها من المعلومات التي يتم تبادلها في فضاء الإنترنت. وأضافت الصحيفتان أن الإدارة الأمريكية تقوم بتبادل المعلومات التي تحصل عليها مع الإدارة البريطانية التي تغذي بها مشروعها المخابراتي الذي يحمل الاسم الكودي' تمبورا'.
قزم وسط عمالقة
بالتوك موقع أمريكي يقدم خدمات الدردشة والتواصل بالصوت والصورة, بدأ في1998, عدد الأعضاء فيه نحو4 ملايين في العالم كله, وهو رقم متواضع جدا مقارنة بآلاف الملايين التي تستخدم فيسبوك وجوجل وياهو علي سبيل المثال. فلماذا تضعه وكالة الأمن القومي الأمريكية ضمن قائمة الكبار؟ والإجابة أن هذا الموقع شهد في العامين الماضيين زيادة كبيرة ومفاجئة في عدد مستخدميه في مصر وسوريا, كما وردت إشارة في تقرير للأمم المتحدة عن مكافحة الإرهاب إلي هذا الموقع كواحد من المواقع التي يستخدمها تنظيم القاعدة وتنظيمات أخري مشابهة في التواصل وفي نشر أفكارها وتجنيد الشباب خاصة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وطبقا لموقع أليكسا- وهو من أشهر المواقع التي تقدم إحصاءات عن جماهيرية مواقع الإنترنت في دول العالم- تأتي مصر في المرتبة السادسة بين الدول الأكثر استخداما لهذه الموقع. وطبقا لعدد من المواقع المتخصصة في قياس معدلات الأمن والثقة في مواقع الإنترنت, مستوي الثقة في هذا الموقع أقل من80%, وهو مستوي ضعيف معناه أن هذا الموقع ليس آمنا وقد يحتوي علي تهديدات قوية قد تضر بسلامة أجهزة زوار هذا الموقع. وهذه معلومات قد تفسر جانبا من الأرقام التي سنعرض لها بعد قليل.
تجسس بلا حدود
والمكون الأساسي والأخطر في' بريزيم' هو برنامج' باوندليس انفورمانت' أي' مخبر بلا حدود' وهو الذي يقوم بتجميع البيانات الخاصة بكل عمليات الاتصال ثم تحليلها وفهرستها وتصنيفها بحيث يصبح من السهل معرفة من اتصل بمن ومتي وفي أي دولة وفي أي مدينة ومدة هذا الاتصال, ثم في النهاية اسقاط كل هذه البيانات علي' خريطة حرارية' لدول العالم تعكس درجة تعرض أنشطة الإنترنت للمراقبة والتجسس من قبل الوكالة وحجم المعلومات التي تقوم الوكالة بتجميعها عن مستخدمي الإنترنت في كل دولة. وهذه الخريطة تستخدم كودا لونيا يتدرج من اللون الأخضر والذي يعني أقل درجات التعرض للمراقبة والتجسس, مرورا بالأصفر والبرتقالي وانتهاء باللون الأحمر والذي يعني أعلي مستويات المراقبة والتجسس.
لماذا إيران وباكستان والأردن ومصر والهند؟
وطبقا للجارديان والواشنطن بوست, فقد قامت الوكالة في شهر مارس الماضي فقط بجمع وتخزين وفهرسة97 مليار تقرير معلوماتي بين ملف صوتي وفيديو وصورة ورسالة بالبريد الإلكتروني ومكالمة تليفونية ونص لدردشة ورسالة قصيرة عبر الإنترنت من شبكات الكمبيوتر في العالم. وكانت إيران أكثر الدول التي تعرضت حركة الإنترنت فيها للمراقبة والتجسس وجمع المعلومات من قبل الوكالة في هذا الشهر, حيث كان نصيبها14 مليار تقرير, وجاءت باكستان في المرتبة الثانية بواقع13.5 مليار تقرير, والأردن في المرتبة الثالثة بواقع12.7 مليار تقرير, ومصر في المرتبة الرابعة وكان نصيبها7.6 مليار تقرير, ثم الهند في المرتبة الخامسة بواقع6.3 مليار تقرير.
قد يكون الطموح النووي لدول مثل إيران وباكستان والهند سببا معقولا للاهتمام الأمريكي بمراقبة تداول المعلومات علي الإنترنت في هذه الدول والتجسس عليها. وبالإضافة إلي ذلك قد يفسر الوجود النشط لإيران في معادلة الشرق الأوسط في ضوء مواقفها المعلنة من إسرائيل ودورها في الشأنين السوري واللبناني سر وجودها علي قائمة الاهتمامات المخابراتية للولايات المتحدة.
هذا التفسير السياسي للاهتمام الأمريكي قد ينفع أيضا في حالة مصر وخاصة بعد التطورات المتلاحقة والمتسارعة في المشهد السياسي المصري في العامين الماضيين, وقد ينفع أيضا في حالة الأردن بحكم موقعها الجغرافي الذي يتوسط منطقة الشرق الأوسط وحدودها المشتركة مع كل من سوريا وفلسطين وإسرائيل والعراق والسعودية.
وغياب دول مثل سوريا وفلسطين والعراق والصين وروسيا من قائمة الدول التي يتعرض نشاط الإنترنت فيها للمراقبة والتجسس من قبل الوكالة, قد يكون غيابا مرحليا. ولكن لماذا تأتي إسرائيل في المنطقة الخضراء من الخريطة وهو لون الدول الأقل تعرضا للمراقبة والتجسس من قبل الوكالة, بينما الولايات المتحدة نفسها في المنطقة الصفراء, بواقع حوالي3 مليارات تقرير معلوماتي من الحصيلة المخابراتية للوكالة عن شهر مارس الماضي؟ هذا السؤال تحديدا ودور إسرائيل عموما في النشاط المخابراتي الأمريكي لم تقترب منه أي من الصحف الكبري التي نقلت التسريبات, بينما ركزت عليه مواقع ومجلات أمريكية ومتخصصون في مجال تكنولوجيا الاتصال والأمن.
إسرائيل والتجسس من الباطن
في ابريل2012 كتب الصحفي الأمريكي' جيمس بامفورد'- المتخصص في النشاط المخابراتي للولايات المتحدة وخاصة وكالة الأمن القومي- مقالا في مجلة' وايرد' الأمريكية- المتخصصة في موضوعات التكنولوجيا والاتصالات والإنترنت- قال فيه إن الوكالة اتفقت سرا مع شركتين إسرائيليتين هما' يرينت' و' ناروس' للتجسس علي شبكات الاتصالات في الولايات المتحدة, وأن الشركتين قامتا بالفعل بتوفير برمجيات تفتح للوكالة أبوابا خلفية لمراكز البيانات الخاصة بشركات مثل فيسبوك وميكروسوفت وجوجل, وأن الشركتين علي صلة قوية بالوحدة8200, وهي وحدة التجسس الإلكتروني في الجيش الإسرائيلي, خاصة أنهما من بين حوالي30 شركة تعمل في مجال التجسس الإلكتروني أسسها عاملون سابقون في هذه الوحدة. ما قاله بامفورد منذ مايزيد عليعام, يردده الآن- بعد تسريبات بريزيم- كتاب ومحللون أخرون, بينهم كتاب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية, وبدرجة عالية من الثقة اعتمادا علي التعاون السابق بين إسرائيل والولايات المتحدة في الهجوم الإلكتروني علي منشآت نووية إيرانية في.2010 خلاصة كلام هؤلاء المحللين وغيرهم كثيرون أن دور إسرائيل في التجسس لصالح الولايات المتحدة داخليا وخارجيا- ليس جديدا ولا مفاجئا, وأن الأبواب الخلفية التي فتحتها شركات إسرائيلية علي بيانات ومعلومات مستخدمي الإنترنت في العالم تصب في مراكز تخزين المعلومات لدي وكالة الأمن القومي الأمريكية, والمخابرات البريطانية وكذلك الإسرائيلية, وأن قيام شركات غير أمريكية بالتجسس علي مواطنين أمريكيين لصالح الإدارة الأمريكية يعفي أوباما والقائمين علي مشروع' بريزيم' من الكذب تحت القسم بأنهم' لا يتجسسون علي مواطنين أمريكيين'.
هذا الرأي الذي له ما يبرره تاريخيا قد يفسر جزءا من كثافة وحجم المراقبة والتجسس علي الإنترنت وغيرها في الدول الخمس التي ذكرناها سابقا. فهذه الدول لها تأثيرها وبدرجات متفاوته علي المعادلات النووية والسياسية في المنطقة, وهي معادلات تحرص إسرائيل ومن وراءها أمريكا علي أن تكون مدخلاتها ومخرجاتها دائما تحت السيطرة الكاملة.
فايبر والحلقة المفقودة
وعلي مستوي آخر من التحليلات كانت هناك إشارات إلي شركة, أخري يري محللون أنها بالفعل جزء من مشروع' بريزيم' وأن غيابها من قائمة الشركات التسع يرجع فقط إلي أنها غير أمريكية, وهي شركة' ايبر ميديا' صاحبة التطبيق المشهور والذي يتيح لمستخدمي التليفون المحمول التواصل مجانا مع آخرين صوتا وصورة وكتابة باستخدام تكنولوجيا الـ' ويس أور آي بي'. وسوف نعرض هنا جزءا من المعلومات المتاحة عن الشركة, والتي قد يكون لها صلة بصورة ما بدور للشركة في مشروع' بريزيم'.
مؤسس الشركة هو' تالمون ماركو' وهو أمريكي من أصل إسرائيلي, وهو أيضا أحد مؤسسي موقع' أي ميش' المتخصص في تبادل الموسيقي والأغاني بين مستخدمي شبكة الإنترنت, وهو موقع سيئ السمعة نتيجة لقيامه بتنزيل برمجيات تجسس علي أجهزة مستخدمي الموقع.
والشركة مقرها في قبرص, ولها مراكز تطوير في روسيا البيضاء وإسرائيل. الشركة بشكلها الحالي تقدم خدمة الاتصال المجاني التي أشرنا إليها, وكان عدد المشتركين فيها حتي مارس الماضي حوالي200 مليون عضو من كل دول العالم. وقيمة الاستثمارات في الشركة بلغت في مايو الماضي حوالي20 مليون دولار. والشركة حتي الآن لا تحقق أية أرباح.
وطبقا لبيان خصوصية المستخدم المتاح علي موقع الشركة: تحتفظ الشركة في قواعد بياناتها بنسخة من قائمة الأصدقاء الموجودة علي تليفون المستخدم بأسمائهم وأرقام تليفوناتهم, وتفاصيل كل المكالمات التي يجريها المستخدم عن طريق الشركة, وقد تقوم الشركة في بعض الأحيان بإعطاء نسخة من البيانات الشخصية للمستخدم لطرف آخر إذا كانت هناك ضرورة لذلك.
وطبقا لـ' أرشيف الإنترنت' فإن الموقع الذي تقدم الشركة خدماتها من خلاله تم إنشاؤه في عام2000 وبدأ كموقع لتقديم' خدمات ذات طابع جنسي', ثم توقف النشاط تقريبا علي الموقع في الفترة ما بين2005 حتي2010, ليعود مرة أخري في أواخر2010 بالصورة التي هو عليها الآن, كموقع يقدم خدمات مجانية للاتصال عبر التليفون المحمول.
وأخيرا وهذا الأهم وطبقا لموقع أليكسا وغيره من المواقع المشابهة, تأتي مصر في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر استخداما لتطبيق' ايبر' بعد الولايات المتحدة والهند, بواقع576 ألف زائر سنويا, وتأتي القاهرة في المرتبة الأولي كأكثر مدينة في العالم استخدما لـ' ايبر'.
قد يكون' مصادفة' أن تتفق المعلومات عن الشركة وعن مؤسسها وعن ترتيب مصر المتقدم في استخدام' ايبر', مع ترتيب مصر المتقدم أيضا بين الدول التي تتعرض فيها الإنترنت لمراقبة وتجسس ثقيل من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية, ودور إسرائيلي محتمل في مشروع' بريزيم', لكنها علي أية حال مصادفة تستحق الدراسة والاهتمام.
لا خصوصية كاملة مع أمن كامل
والإدارة الأمريكية لا تنكر وجود عملية' بريزيم' وتقول إنها ضرورية للحفاظ علي الأمن القومي الأمريكي وحماية المواطن الأمريكي من الإرهاب وغيره من التهديدات الخارجية, وأنها لا تخالف القانون الأمريكي لأن كل عمليات المراقبة والتجسس لا تتم إلا بعد صدور أمر محكمة, وأن الكونجرس يعرف, وأنها تتم خارج الولايات المتحدة ولا تستهدف مواطنين أمريكيين( ؟؟), وأنه في حالة الحصول علي معلومات عن طريق' الصدفة' عن مواطن أمريكي فنشر هذه المعلومات أو استخدامها محظور إلا إذا كانت هذه المعلومات دليلا علي جريمة أو تشير إلي تهديد خطير أو أن هناك حاجة إليها في فهم وتقييم أهمية معلومات أخري. باختصار كما قال أوباما تعليقا علي هذه التسريبات- من غير الممكن أن يطالب أحد بتوفير الأمن بنسبة مئة في المئة, وفي الوقت نفسه يطالب أيضا باحترام الخصوصية بنسبة مئة في المئة.
والشركات التسع هي الأخري لا تنكر' توفير' معلومات عن مستخدميها لوكالة الأمن القومي, ولكنها تنكر معرفتها بوجود' بريزيم', وتقول إنها تتصرف بما يتفق مع القوانين واللوائح الأمريكية, وأنها توفر هذه المعلومات فقط بناء علي طلبات من الوكالة مشفوعة بأمر محكمة بذلك, وأنها لا توفر للوكالة' أبوابا خلفية' تفتح علي شبكاتها ومخازن معلوماتها لتأخذ منها الوكالة ما تشاء ومتي تشاء وعن أي شخص تشاء.
وبصرف النظر عن غابات التفاصيل التقنية والقانونية التي تجرنا إليها الإدارة والشركات الأمريكية, خلاصة القول, إننا أمام أكبر عملية تجسس ومراقبة عرفتها البشرية من حيث الحجم والنوع: الحجم بالمليارات والنوع يغطي كل ألوان الطيف المعلوماتي: شخصي, تجاري, عسكري, أمني, وسياسي, ويغطي أيضا كل أشكال المعلومات: نصوص وصور وفيديوهات. وعواقب ذلك ليست بسيطة بأي حال من الأحوال, فاهتزاز الثقة في هذه الشركات بهذه الصورة غير المسبوقة قد يكلفها ويكلف الاقتصاد الأمريكي الكثير,' والخطأ الأخلاقي' التي ارتكبته الإدارة الأمريكية قد يكون له نتائجه السلبية علي حقوق مستخدمي الإنترنت في الخصوصية وحرية التعبير وعدم الملاحقة والمراقبة من قبل حكوماتهم.
الأمن والاقتصاد والعزلة المعلوماتية
وأول القطاعات الأمريكية التي سوف تتأثر مباشرة بأزمة الثقة هو قطاع تخزين البيانات علي الإنترنت.فالشركات والأفراد تقوم باستئجار مساحات في مراكز تخزين البيانات والمعلومات علي الإنترنت لتخزين بياناتها ومعلوماتها والتعامل معها عن بعد, لأن ذلك أقل تكلفة من تخزينها علي أجهزتهم الخاصة, كما يتيح تعاملا أسرع مع هذه البيانات. حجم التعاملات في العالم في هذا المجال حوالي131 مليار دولار في2013, وحجم الأرباح حوالي36 مليار دولار, نصيب الشركات الأمريكية من هذه السوق حوالي60%. وكان هناك نوعان من ردود الفعل السريعة علي ما حدث والتي قد يكون لها أثار سلبية سريعة علي النصيب الأمريكي من هذه الصناعة خصوصا, ومن صناعة الإنترنت عموما, والتي قد تؤدي في النهاية طبقا لبعض المحللين إلي عزلة معلوماتية للولايات المتحدة. الأول عبر عنه وزير الداخلية الألماني بنصيحته للمواطنين والشركات الألمانية بأن يتجنبوا الاعتماد علي الخدمات المقدمة من شركات مقرها الولايات المتحدة, أو شركات تستخدم شركات أمريكية في تخزين معلومات وبيانات مستخدميها, خوفا من التجسس عليها من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية. والنوع الثاني من رد الفعل عبرت عنه شركات صينية بعروض سريعة لخدمات تخزين' آمنة' للبيانات والمعلومات علي الإنترنت.
أمريكا تتجسس.. فليتجسس الجميع
والتجسس الأمريكي علي الإنترنت سابقة تعطي مبررا' أخلاقيا' جاهزا لكل الأنظمة الديكتاتورية بحجب ما تشاء ومراقبة من تشاء فأمريكا راعية الديمقراطية والحريات فعلت ذلك. وبالفعل خرج مسئولون صينيون يعلنون بكل فخر أن الأنظمة هناك كانت علي حق عندما وضعت الإنترنت عندها تحت الرقابة الصارمة' مبكرا'. ورأت دول أوروبية من بينها فرنسا التسريبات فرصة ذهبية للإعلان عن مشروعها الذي' كان سريا' لمراقبة الإنترنت. وفي روسيا وطبقا لصحيفة' إزفستيا'- قرر الكرملين العودة إلي استخدام الآلة الكاتبة في مراسلاته خوفا من تسريبات مشابهة, وقد قام بالفعل بشراء180 آلة كاتبة كهربائية ألمانية الصنع. أما الشعب الأمريكي فكثير من أبنائه كما جاء في تعليقاتهم الساخرة علي بعض مواقع التواصل الاجتماعي يفكرون في العودة إلي استخدام الحمام الزاجل في المراسلة فذلك أكثر أمنا من الإنترنت الآن وإن كان أبطأ بعض الشيء!
قزم وسط عمالقة
بالتوك موقع أمريكي يقدم خدمات الدردشة والتواصل بالصوت والصورة, بدأ في1998, عدد الأعضاء فيه نحو4 ملايين في العالم كله, وهو رقم متواضع جدا مقارنة بآلاف الملايين التي تستخدم فيسبوك وجوجل وياهو علي سبيل المثال. فلماذا تضعه وكالة الأمن القومي الأمريكية ضمن قائمة الكبار؟ والإجابة أن هذا الموقع شهد في العامين الماضيين زيادة كبيرة ومفاجئة في عدد مستخدميه في مصر وسوريا, كما وردت إشارة في تقرير للأمم المتحدة عن مكافحة الإرهاب إلي هذا الموقع كواحد من المواقع التي يستخدمها تنظيم القاعدة وتنظيمات أخري مشابهة في التواصل وفي نشر أفكارها وتجنيد الشباب خاصة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وطبقا لموقع أليكسا- وهو من أشهر المواقع التي تقدم إحصاءات عن جماهيرية مواقع الإنترنت في دول العالم- تأتي مصر في المرتبة السادسة بين الدول الأكثر استخداما لهذه الموقع. وطبقا لعدد من المواقع المتخصصة في قياس معدلات الأمن والثقة في مواقع الإنترنت, مستوي الثقة في هذا الموقع أقل من80%, وهو مستوي ضعيف معناه أن هذا الموقع ليس آمنا وقد يحتوي علي تهديدات قوية قد تضر بسلامة أجهزة زوار هذا الموقع. وهذه معلومات قد تفسر جانبا من الأرقام التي سنعرض لها بعد قليل.
تجسس بلا حدود
والمكون الأساسي والأخطر في' بريزيم' هو برنامج' باوندليس انفورمانت' أي' مخبر بلا حدود' وهو الذي يقوم بتجميع البيانات الخاصة بكل عمليات الاتصال ثم تحليلها وفهرستها وتصنيفها بحيث يصبح من السهل معرفة من اتصل بمن ومتي وفي أي دولة وفي أي مدينة ومدة هذا الاتصال, ثم في النهاية اسقاط كل هذه البيانات علي' خريطة حرارية' لدول العالم تعكس درجة تعرض أنشطة الإنترنت للمراقبة والتجسس من قبل الوكالة وحجم المعلومات التي تقوم الوكالة بتجميعها عن مستخدمي الإنترنت في كل دولة. وهذه الخريطة تستخدم كودا لونيا يتدرج من اللون الأخضر والذي يعني أقل درجات التعرض للمراقبة والتجسس, مرورا بالأصفر والبرتقالي وانتهاء باللون الأحمر والذي يعني أعلي مستويات المراقبة والتجسس.
لماذا إيران وباكستان والأردن ومصر والهند؟
وطبقا للجارديان والواشنطن بوست, فقد قامت الوكالة في شهر مارس الماضي فقط بجمع وتخزين وفهرسة97 مليار تقرير معلوماتي بين ملف صوتي وفيديو وصورة ورسالة بالبريد الإلكتروني ومكالمة تليفونية ونص لدردشة ورسالة قصيرة عبر الإنترنت من شبكات الكمبيوتر في العالم. وكانت إيران أكثر الدول التي تعرضت حركة الإنترنت فيها للمراقبة والتجسس وجمع المعلومات من قبل الوكالة في هذا الشهر, حيث كان نصيبها14 مليار تقرير, وجاءت باكستان في المرتبة الثانية بواقع13.5 مليار تقرير, والأردن في المرتبة الثالثة بواقع12.7 مليار تقرير, ومصر في المرتبة الرابعة وكان نصيبها7.6 مليار تقرير, ثم الهند في المرتبة الخامسة بواقع6.3 مليار تقرير.
قد يكون الطموح النووي لدول مثل إيران وباكستان والهند سببا معقولا للاهتمام الأمريكي بمراقبة تداول المعلومات علي الإنترنت في هذه الدول والتجسس عليها. وبالإضافة إلي ذلك قد يفسر الوجود النشط لإيران في معادلة الشرق الأوسط في ضوء مواقفها المعلنة من إسرائيل ودورها في الشأنين السوري واللبناني سر وجودها علي قائمة الاهتمامات المخابراتية للولايات المتحدة.
هذا التفسير السياسي للاهتمام الأمريكي قد ينفع أيضا في حالة مصر وخاصة بعد التطورات المتلاحقة والمتسارعة في المشهد السياسي المصري في العامين الماضيين, وقد ينفع أيضا في حالة الأردن بحكم موقعها الجغرافي الذي يتوسط منطقة الشرق الأوسط وحدودها المشتركة مع كل من سوريا وفلسطين وإسرائيل والعراق والسعودية.
وغياب دول مثل سوريا وفلسطين والعراق والصين وروسيا من قائمة الدول التي يتعرض نشاط الإنترنت فيها للمراقبة والتجسس من قبل الوكالة, قد يكون غيابا مرحليا. ولكن لماذا تأتي إسرائيل في المنطقة الخضراء من الخريطة وهو لون الدول الأقل تعرضا للمراقبة والتجسس من قبل الوكالة, بينما الولايات المتحدة نفسها في المنطقة الصفراء, بواقع حوالي3 مليارات تقرير معلوماتي من الحصيلة المخابراتية للوكالة عن شهر مارس الماضي؟ هذا السؤال تحديدا ودور إسرائيل عموما في النشاط المخابراتي الأمريكي لم تقترب منه أي من الصحف الكبري التي نقلت التسريبات, بينما ركزت عليه مواقع ومجلات أمريكية ومتخصصون في مجال تكنولوجيا الاتصال والأمن.
إسرائيل والتجسس من الباطن
في ابريل2012 كتب الصحفي الأمريكي' جيمس بامفورد'- المتخصص في النشاط المخابراتي للولايات المتحدة وخاصة وكالة الأمن القومي- مقالا في مجلة' وايرد' الأمريكية- المتخصصة في موضوعات التكنولوجيا والاتصالات والإنترنت- قال فيه إن الوكالة اتفقت سرا مع شركتين إسرائيليتين هما' يرينت' و' ناروس' للتجسس علي شبكات الاتصالات في الولايات المتحدة, وأن الشركتين قامتا بالفعل بتوفير برمجيات تفتح للوكالة أبوابا خلفية لمراكز البيانات الخاصة بشركات مثل فيسبوك وميكروسوفت وجوجل, وأن الشركتين علي صلة قوية بالوحدة8200, وهي وحدة التجسس الإلكتروني في الجيش الإسرائيلي, خاصة أنهما من بين حوالي30 شركة تعمل في مجال التجسس الإلكتروني أسسها عاملون سابقون في هذه الوحدة. ما قاله بامفورد منذ مايزيد عليعام, يردده الآن- بعد تسريبات بريزيم- كتاب ومحللون أخرون, بينهم كتاب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية, وبدرجة عالية من الثقة اعتمادا علي التعاون السابق بين إسرائيل والولايات المتحدة في الهجوم الإلكتروني علي منشآت نووية إيرانية في.2010 خلاصة كلام هؤلاء المحللين وغيرهم كثيرون أن دور إسرائيل في التجسس لصالح الولايات المتحدة داخليا وخارجيا- ليس جديدا ولا مفاجئا, وأن الأبواب الخلفية التي فتحتها شركات إسرائيلية علي بيانات ومعلومات مستخدمي الإنترنت في العالم تصب في مراكز تخزين المعلومات لدي وكالة الأمن القومي الأمريكية, والمخابرات البريطانية وكذلك الإسرائيلية, وأن قيام شركات غير أمريكية بالتجسس علي مواطنين أمريكيين لصالح الإدارة الأمريكية يعفي أوباما والقائمين علي مشروع' بريزيم' من الكذب تحت القسم بأنهم' لا يتجسسون علي مواطنين أمريكيين'.
هذا الرأي الذي له ما يبرره تاريخيا قد يفسر جزءا من كثافة وحجم المراقبة والتجسس علي الإنترنت وغيرها في الدول الخمس التي ذكرناها سابقا. فهذه الدول لها تأثيرها وبدرجات متفاوته علي المعادلات النووية والسياسية في المنطقة, وهي معادلات تحرص إسرائيل ومن وراءها أمريكا علي أن تكون مدخلاتها ومخرجاتها دائما تحت السيطرة الكاملة.
فايبر والحلقة المفقودة
وعلي مستوي آخر من التحليلات كانت هناك إشارات إلي شركة, أخري يري محللون أنها بالفعل جزء من مشروع' بريزيم' وأن غيابها من قائمة الشركات التسع يرجع فقط إلي أنها غير أمريكية, وهي شركة' ايبر ميديا' صاحبة التطبيق المشهور والذي يتيح لمستخدمي التليفون المحمول التواصل مجانا مع آخرين صوتا وصورة وكتابة باستخدام تكنولوجيا الـ' ويس أور آي بي'. وسوف نعرض هنا جزءا من المعلومات المتاحة عن الشركة, والتي قد يكون لها صلة بصورة ما بدور للشركة في مشروع' بريزيم'.
مؤسس الشركة هو' تالمون ماركو' وهو أمريكي من أصل إسرائيلي, وهو أيضا أحد مؤسسي موقع' أي ميش' المتخصص في تبادل الموسيقي والأغاني بين مستخدمي شبكة الإنترنت, وهو موقع سيئ السمعة نتيجة لقيامه بتنزيل برمجيات تجسس علي أجهزة مستخدمي الموقع.
والشركة مقرها في قبرص, ولها مراكز تطوير في روسيا البيضاء وإسرائيل. الشركة بشكلها الحالي تقدم خدمة الاتصال المجاني التي أشرنا إليها, وكان عدد المشتركين فيها حتي مارس الماضي حوالي200 مليون عضو من كل دول العالم. وقيمة الاستثمارات في الشركة بلغت في مايو الماضي حوالي20 مليون دولار. والشركة حتي الآن لا تحقق أية أرباح.
وطبقا لبيان خصوصية المستخدم المتاح علي موقع الشركة: تحتفظ الشركة في قواعد بياناتها بنسخة من قائمة الأصدقاء الموجودة علي تليفون المستخدم بأسمائهم وأرقام تليفوناتهم, وتفاصيل كل المكالمات التي يجريها المستخدم عن طريق الشركة, وقد تقوم الشركة في بعض الأحيان بإعطاء نسخة من البيانات الشخصية للمستخدم لطرف آخر إذا كانت هناك ضرورة لذلك.
وطبقا لـ' أرشيف الإنترنت' فإن الموقع الذي تقدم الشركة خدماتها من خلاله تم إنشاؤه في عام2000 وبدأ كموقع لتقديم' خدمات ذات طابع جنسي', ثم توقف النشاط تقريبا علي الموقع في الفترة ما بين2005 حتي2010, ليعود مرة أخري في أواخر2010 بالصورة التي هو عليها الآن, كموقع يقدم خدمات مجانية للاتصال عبر التليفون المحمول.
وأخيرا وهذا الأهم وطبقا لموقع أليكسا وغيره من المواقع المشابهة, تأتي مصر في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر استخداما لتطبيق' ايبر' بعد الولايات المتحدة والهند, بواقع576 ألف زائر سنويا, وتأتي القاهرة في المرتبة الأولي كأكثر مدينة في العالم استخدما لـ' ايبر'.
قد يكون' مصادفة' أن تتفق المعلومات عن الشركة وعن مؤسسها وعن ترتيب مصر المتقدم في استخدام' ايبر', مع ترتيب مصر المتقدم أيضا بين الدول التي تتعرض فيها الإنترنت لمراقبة وتجسس ثقيل من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية, ودور إسرائيلي محتمل في مشروع' بريزيم', لكنها علي أية حال مصادفة تستحق الدراسة والاهتمام.
لا خصوصية كاملة مع أمن كامل
والإدارة الأمريكية لا تنكر وجود عملية' بريزيم' وتقول إنها ضرورية للحفاظ علي الأمن القومي الأمريكي وحماية المواطن الأمريكي من الإرهاب وغيره من التهديدات الخارجية, وأنها لا تخالف القانون الأمريكي لأن كل عمليات المراقبة والتجسس لا تتم إلا بعد صدور أمر محكمة, وأن الكونجرس يعرف, وأنها تتم خارج الولايات المتحدة ولا تستهدف مواطنين أمريكيين( ؟؟), وأنه في حالة الحصول علي معلومات عن طريق' الصدفة' عن مواطن أمريكي فنشر هذه المعلومات أو استخدامها محظور إلا إذا كانت هذه المعلومات دليلا علي جريمة أو تشير إلي تهديد خطير أو أن هناك حاجة إليها في فهم وتقييم أهمية معلومات أخري. باختصار كما قال أوباما تعليقا علي هذه التسريبات- من غير الممكن أن يطالب أحد بتوفير الأمن بنسبة مئة في المئة, وفي الوقت نفسه يطالب أيضا باحترام الخصوصية بنسبة مئة في المئة.
والشركات التسع هي الأخري لا تنكر' توفير' معلومات عن مستخدميها لوكالة الأمن القومي, ولكنها تنكر معرفتها بوجود' بريزيم', وتقول إنها تتصرف بما يتفق مع القوانين واللوائح الأمريكية, وأنها توفر هذه المعلومات فقط بناء علي طلبات من الوكالة مشفوعة بأمر محكمة بذلك, وأنها لا توفر للوكالة' أبوابا خلفية' تفتح علي شبكاتها ومخازن معلوماتها لتأخذ منها الوكالة ما تشاء ومتي تشاء وعن أي شخص تشاء.
وبصرف النظر عن غابات التفاصيل التقنية والقانونية التي تجرنا إليها الإدارة والشركات الأمريكية, خلاصة القول, إننا أمام أكبر عملية تجسس ومراقبة عرفتها البشرية من حيث الحجم والنوع: الحجم بالمليارات والنوع يغطي كل ألوان الطيف المعلوماتي: شخصي, تجاري, عسكري, أمني, وسياسي, ويغطي أيضا كل أشكال المعلومات: نصوص وصور وفيديوهات. وعواقب ذلك ليست بسيطة بأي حال من الأحوال, فاهتزاز الثقة في هذه الشركات بهذه الصورة غير المسبوقة قد يكلفها ويكلف الاقتصاد الأمريكي الكثير,' والخطأ الأخلاقي' التي ارتكبته الإدارة الأمريكية قد يكون له نتائجه السلبية علي حقوق مستخدمي الإنترنت في الخصوصية وحرية التعبير وعدم الملاحقة والمراقبة من قبل حكوماتهم.
الأمن والاقتصاد والعزلة المعلوماتية
وأول القطاعات الأمريكية التي سوف تتأثر مباشرة بأزمة الثقة هو قطاع تخزين البيانات علي الإنترنت.فالشركات والأفراد تقوم باستئجار مساحات في مراكز تخزين البيانات والمعلومات علي الإنترنت لتخزين بياناتها ومعلوماتها والتعامل معها عن بعد, لأن ذلك أقل تكلفة من تخزينها علي أجهزتهم الخاصة, كما يتيح تعاملا أسرع مع هذه البيانات. حجم التعاملات في العالم في هذا المجال حوالي131 مليار دولار في2013, وحجم الأرباح حوالي36 مليار دولار, نصيب الشركات الأمريكية من هذه السوق حوالي60%. وكان هناك نوعان من ردود الفعل السريعة علي ما حدث والتي قد يكون لها أثار سلبية سريعة علي النصيب الأمريكي من هذه الصناعة خصوصا, ومن صناعة الإنترنت عموما, والتي قد تؤدي في النهاية طبقا لبعض المحللين إلي عزلة معلوماتية للولايات المتحدة. الأول عبر عنه وزير الداخلية الألماني بنصيحته للمواطنين والشركات الألمانية بأن يتجنبوا الاعتماد علي الخدمات المقدمة من شركات مقرها الولايات المتحدة, أو شركات تستخدم شركات أمريكية في تخزين معلومات وبيانات مستخدميها, خوفا من التجسس عليها من قبل وكالة الأمن القومي الأمريكية. والنوع الثاني من رد الفعل عبرت عنه شركات صينية بعروض سريعة لخدمات تخزين' آمنة' للبيانات والمعلومات علي الإنترنت.
أمريكا تتجسس.. فليتجسس الجميع
والتجسس الأمريكي علي الإنترنت سابقة تعطي مبررا' أخلاقيا' جاهزا لكل الأنظمة الديكتاتورية بحجب ما تشاء ومراقبة من تشاء فأمريكا راعية الديمقراطية والحريات فعلت ذلك. وبالفعل خرج مسئولون صينيون يعلنون بكل فخر أن الأنظمة هناك كانت علي حق عندما وضعت الإنترنت عندها تحت الرقابة الصارمة' مبكرا'. ورأت دول أوروبية من بينها فرنسا التسريبات فرصة ذهبية للإعلان عن مشروعها الذي' كان سريا' لمراقبة الإنترنت. وفي روسيا وطبقا لصحيفة' إزفستيا'- قرر الكرملين العودة إلي استخدام الآلة الكاتبة في مراسلاته خوفا من تسريبات مشابهة, وقد قام بالفعل بشراء180 آلة كاتبة كهربائية ألمانية الصنع. أما الشعب الأمريكي فكثير من أبنائه كما جاء في تعليقاتهم الساخرة علي بعض مواقع التواصل الاجتماعي يفكرون في العودة إلي استخدام الحمام الزاجل في المراسلة فذلك أكثر أمنا من الإنترنت الآن وإن كان أبطأ بعض الشيء!
المصدر الاهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق