المجند: ملثمون بزى حماس قتلوا زملائى وهتفوا «قتلنا أعداء الله».. ولولا نفاد الذخيرة من الملثمين لكانوا قتلونى
هو أحد الجنود الذين كتبت لهم العناية الإلهية النجاة من مذبحة رفح، التى تسببت فى مقتل 16 جنديا من زملائه بنقطة «الحرية» الحدودية برفح المصرية، والتى تحل ذكراها الأولى علينا، بعد عام من وقوعها فى رمضان الماضى.
«الوطن» نجحت فى الحصول على شهادة أحد الجنود الناجين من المذبحة، ضمن 5 مجندين آخرين، رفض ذكر اسمه، خوفا من الاعتداء عليه أو التعرض لحياته بأذى، ويبلغ المجند من العمر 22 سنة، وقت تنفيذ العملية، وكان مقررا له أن يقضى فترة تجنيد 3 سنوات، لكنه لم يُكملها بقرار من القوات المسلحة، نظرا لسوء حالته النفسية التى أعقبت الحادث. استجمع الشاب قواه وقص روايته كاملة لنا وننفرد هنا بنشرها وهى مسجلة بالصوت.
ويقول المجند «بعد مرور 5 شهور من تجنيدى، وخدمتى بنقاط حدودية متاخمة لحدود قطاع غزة، تم نقلى إلى قاعدة الدورية بمنطقة الحرية برفح، التى وقعت فيها مذبحة إخوانى الجنود، وكانت الخدمة 6 ساعات شغل و6 ساعات راحة، على مدار 24 ساعة، وصلت إلى النقطة التى نُقلت إليها، التقيت زميلى «محمد بغدادى»، الذى استشهد ضمن الـ16 جنديا، وقال لى: «مكان الخدمة هنا مُريح، بس المشكلة إن فيه تهديدات وصلتنا إن النقطة معرضة للضرب، عشان كدا زوّدوا عدد العساكر فى القاعدة بتاعتنا، وكلام بغدادى كان مقلق، دخلت لأستكشف مكان القاعدة لأول مرة من الداخل، فوجدتها عبارة عن عنابر نوم للعساكر، ومطبخ لتجهيز الطعام، وحمام ومخزن للسلاح، واستراحة للضابط فى نفس المبنى، وكان عندنا فى النقطة حوالى 22 عسكريا، كل واحد له دور يقوم به، منهم 3 عساكر لقيادة المدرعات و2 صف ضابط و2 ضباط، و2 جنود للمطبخ وخدمة حراسة أعلى مبنى النقطة والدوريات 8 عساكر.. قبل الحادث بيوم واحد، جاءت سيارة نصف نقل 2 كابينة دفع رباعى، وحدث موقف غريب، نزل شخص من السيارة يرتدى جلبابا وأعطى أحد الجنود زجاجة مياه مثلجة قبل المغرب بدقائق وفى نفس ميعاد الهجوم، سألت زملائى وقلت لهم: هوا الراجل دا متعود كل يوم يعطيكم مياه؟ فقالوا: لا دى أول مرة.. فى صباح ثانى يوم، توالت الخدمات التى انقسمت إلى تأمين النقطة من الخلف بمدرعة، ومن الأمام بمدرعة بداخل كليهما مجموعة من العساكر، إضافة إلى اثنين آخرين فوق المبنى. وكانت خدمتى داخل المدرعة الموجودة خلف المبنى، وخلصت الخدمة قبل المغرب ورجعت عشان أسلم سلاحى والطلقات الحية والفشنك إلى المخزن.
قبل الحادث بدقائق، كان المكان هادئا جدا، وكل زملائى منهكين من يوم الخدمة، وكله ينتظر أذان المغرب كى يروى عطشه، والبعض كان يصلى العصر، والمكان أصبح هادئا وغمرته السكينة، كان الصول طارق حماد يقرأ القرآن قبل المغرب بدقائق أمام مدخل النقطة، وكان 2 عساكر من زملائى يجهزون الأكل، بينما توضأ آخرون لأداء صلاة المغرب، ثم بدأ زملائى وضع الطعام على مكان يشبه المصطبة خارج النقطة فى الهواء الرطب، وجلسنا 3 مجموعات مجاورة لبعضهم، وأتذكر فى هذه اللحظة لم يجد محمد بغدادى مكانا يجلس فيه فناديت عليه عشان يقعد جنبى.. بدأ أذان المغرب واقترب كل العساكر والضباط من الطعام، وظل اثنان لم يفطرا، الأول كان يجلس على كرسى بجوارنا فى مواجهة طريق الأسفلت، المار بجوار النقطة واسمه محمد فرج، والثانى كان بداخل المبنى يحضر شيئا ما، واسمه محمود، مش فاكر اسمه بالكامل، وكان العساكر كلهم مبيقعدوش يفطروا مرة واحدة، وكان يبقى مجندان لعدم توافر ملاعق لهما فكانا ينتظران أول اثنين ينتهيان من الإفطار ليأكلا بملعقتيهما.. بدأنا نأكل الطعام، بعد أن كسر كل جندى صيامه بشوية ميه، قبل لحظات من هجوم المسلحين علينا، نظر إلىَّ زميلى وليد قنديل، وابتسم لى بدون سبب، ونظر فى الطعام، سألته: بتضحك على إيه؟ سكت ومردش علىَّ..
شخص «غريب» وقف قبل الحادث بسيارته أمام «النقطة» وأعطانا مياهاً باردة.. والشهيد بغدادى قال لى قبل الواقعة: «المكان مستهدف بالضرب»
فجأة رأينا زميلنا الجالس على الكرسى فى مواجهة الطريق، وكان فى حالة صدمة وخوف شديدين، ويقول «كله يجرى.. كله يجرى».. محدش لحق يقوم من مكانه وتوقف كل العساكر عن الأكل ليعرفوا سبب صياح زميلنا وتخوفه، سمعنا صوت فرملة سيارات كان صوتها عاليا اخترقت حرم النقطة، الكل انتبه إلى مصدر الصوت ووقف ينظر، لقينا 2 عربيات ورصاص بتضرب فينا وزمايلى بيقعوا من جنبى، واللى بيقع يتألم بصوت عالى، بصيت ورايا لقيت عربيتين وواحد ملثم يحمل سلاح رشاش واقف على عربية «لاندكروز» واثنين منهم يقفزان من سيارة ربع نقل دفع رباعى، وأثناء عملية قفزهما من على السيارة وقعا على بعض.. ولقيتهم يقولون لمن يحاول الهرب منا أو من المصابين: «اثبت مكانك».. كلهم كانوا يحملون سلاحا وملتحين، ثبتنا لحظة واحدة فبدأوا فتح النار بشدة علينا وهم يقولون «الله أكبر.. قتلنا الكفار أعداء الله.. الله أكبر».
جريت فى اتجاه المدرعة الموجودة أمام المبنى وملحقتش أوصلها لأنى وقعت على وجهى بجوار إحدى سياراتهم، ووقع فوقى زميلى متأثرا بإصابات خطيرة، ساعتها عملت نفسى ميت وكنت هموت من الخوف، وكنت بسمع صوت تألم زميلى وهو بيزعق على آخره وبيقول آآآه من شدة الألم.. كتمت أنفاسى وأنا أسمع أصوات الرصاص تخترق كل مكان، وهم يواصلون هتافهم: «خلّصنا على أعداء الله، خلصنا على الكفار»، وكنت أسمع صوت زملائى بجوارى يتلون الشهادة ويكررونها وهم يتوجعون بشدة، ما زال بعضهم على قيد الحياة، ومنهم من فارقها نهائيا.. من بقى على قيد الحياة فى هذه اللحظة ما زال يتلو الشهادة ويكررها كان «الشاويش» باسم عبدالله، وبعض زملائى لا أعرف عددهم بل سمعت أصوات شهاداتهم.
وقف كل الملثمين يتأكدون أن كل من أصيب قد مات، ووجه واحد منهم كلاما للمسلحين قال لهم: أعيدوا عليهم مرة ثانية. يقصد ضربهم بالنار مرة أخرى. كل واحد من «الكفار دول» كان يلف على كل عسكرى عشان يقتله بالرصاص لو كان فيه «شوية روح».. عشان يطمئن إنه قتله، كان بعض زملائى على قيد الحياة ما زالوا يتوجعون، عندما يقترب منهم أحد الملثمين بالسلاح كى يقضى على ما تبقى من روحه، يقومون بنطق الشهادة واحدا وراء الثانى.
قلت للمشير طنطاوى بصحبة «مرسى» فى المستشفى: «حماس اللى عملوها» فرد علىَّ قائلا: «ألف سلامة عليك»
كنت سأموت وقلبى يقف من صعوبة الموقف، فالمسلحون وصلوا إلىَّ وقاموا بقتل زميلى الملقى على ظهرى فى رأسه، حتى جاء دورى، فوجه سلاحه إلى رأسى وضغط على الزناد فشعرت بهواء يخرج من السلاح فى رأسى، واكتشفت بعد ذلك أن السلاح قد فرغ من الرصاص، ولم يصبنى شىء.
بعد أن اكتشف المسلح الذى صوب السلاح إلى رأسى أن الذخيرة نفدت قال بصوت عالٍ «الذخيرة نفدت نريد ذخيرة» وكررها، حتى جاء له أمر من قائدهم بدخول النقطة كى يستولوا على مخزن السلاح بالداخل، واختفى صوت زملائى اللى جنبى لأنهم استشهدوا، ولم يبق إلا صوت الذين قتلوهم، تحركوا إلى داخل مخزن السلاح وأطلقوا النار على الباب الحديدى حتى كسروه ودخل عدد منهم واستولوا على سلاحنا كله.
فكرت أقوم أجرى أهرب من المكان وأذهب إلى أى نقطة جيش، لكن قلت لنفسى أنا هفضل زى منا، يا أموت يا أعيش، وسمعت صوت تشوين الذخيرة فى السيارة ربع النقل اللى كانت معاهم، وسمعت صوت أحدهم ولهجته ليست بدوية إنما فلسطينية، يقول لسائق المدرعة الذى لا أعرف كيف حددوه من وسط 22 جنديا وتحفظوا عليه ولم يقتلوه: «شغّل المدرعة»، فقال لهم: «مش معايا مفتاحها».. فقالوا له: لو لم تشغل المدرعة سنقتلك مثل زملائك. وأصر المجند على عدم إعطاء المفتاح إلى أحدهم، فأطلقوا رصاصتين على قدمه، وأجبروه على الذهاب للمدرعة ليشغلها.
فى هذه الأجواء سمعنا أصوات جيران المنطقة ينادون على الملثمين الذين يطلقون النار علينا للمرة الثالثة، وهم يقولون: «حرام عليكم دول عساكر غلابة إيه ذنبهم وقاموا بقذفهم بالحجارة». فرد الملثمون على الأهالى بإطلاق النار فى الهواء، وحاول أهالى المنطقة تخويف المهاجمين، فقالوا لهم: «الجيش جى.. الجيش وصل». فاستشعروا أن مهمتهم يجب أن تتم سريعا، فبدأوا يحضّرون أنفسهم كى يرحلوا.
قعدت خدمة 5 شهور على نقطة بجوار الحدود مع غزة، عارف لبس بتوع حماس شكله إيه، واللى شفته يوم ما ضربونا واحنا صايمين كان نفس اللبس الأخضر المموه، واللكنة كانت مختلفة مش بدوية مصرية، كانت لهجة فلسطينية.
بعد أن انتهوا من عملية القتل وتحميل السلاح صاح أحدهم قائلا: «إلى اليهود.. هيا بنا على اليهود»، وتحركت المدرعة ومعها سيارة ربع نقل فى اتجاه معبر كرم أبوسالم.
لم أقم من وضع الانبطاح إلا حينما سمعت صوت السكان القريبين يمرون بجانبى وهم يقولون، «لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله».. قمت من مكانى وأنا أضع يدى على جسدى وأنا مش مصدق إن ربنا نجانى ولم أمت. قمت من مكانى فوجدت زميلى الذى وقع على ظهرى قد فارق الحياة، وغمرنى دمه وأصبح من يرانى يعتقد أننى أصبت بطلقات نار فى كل مكان فى جسمى. واعتدلت فى نومتى كى أنظر حولى فى المكان فوجدت أطباق الأكل امتلأت بالدم، وزميلى محمد بغدادى قد استشهد، والصول طارق الذى كان يقرأ القرآن مات بجوار مصحفه.
صوت ضعيف كان يملأه الفزع نادى علىَّ فاكتشفت أنه جندى زميلى بالنقطة لم يحدث له أى شىء ولم تبد عليه أى علامات إصابة ولا توجد نقطة دماء على «أفروله» وكأنه جديد. وقال لى: «أنا هدخل اتصل بقيادة السرية».. دخل زميلى مبنى نقطة الحرية من الداخل، ليتصل بلاسلكى قيادة السرية ويبلغهم عن الهجوم.
لم يحضر إلينا أى دعم أو مساعدات من النقاط المجاورة لنا وبقينا 40 دقيقة دون إمداد، رأينا فى هذه الفترة قمة الخوف، بعد أن ترك المسلحون المكان لأننا خفنا من عودة المسلحين مرة أخرى، لكنهم رأوا سيارة تشعل ضوء كشافاتها قادمة فى اتجاه المعسكر، فأحس الأهالى أن المسلحين جاءوا من جديد، فأسرعوا كى يهربوا، وساد الخوف، حاولت الهرب معهم فاكتشفت أن قدمى لا أستطيع السير عليها إلا بصعوبة كبيرة وألم شديد، لكنى سرت كى أبعد عن مرمى هؤلاء الناس المسلحين، لكنى اكتشفت أن السيارة القادمة ماركة «جيب» بها ضابط جيش وعسكرى، عندما وصل سألنى: فيه حد عايش تانى غيرك.. أنت فيك إيه اركب عشان أوصلك المستشفى؟
أخذتنى سيارة الضابط إلى العيادة بقيادة الفوج الأول وجاء لى أطباء وفحصونى، وفى أثناء الفحص سمعت أصوات تفجيرات ورصاص يهز المكان، وطائرات تتحرك فى الجو، فاعتقدت أن الحرب قامت بين مصر وإسرائيل، وانتقلت لمستشفى رفح العام بسيارة من العيادة وملقناش أى خدمة ولا كان فيها حتى شاش طبى، وتم نقلنا مع جثث زملائى إلى مستشفى العريش العام، وفى فجر اليوم رحلونا إلى القاهرة لمستشفى عسكرى، وفى أحد الأيام جاء لنا خبر أن محمد مرسى والمشير حسين طنطاوى، وزير الدفاع والفريق سامى عنان، رئيس الأركان السابق سيزورون المستشفى. وفى الزيارة سألنى المشير وكان بجواره «مرسى» وقال: احكيلى اللى حصل؟ فحكيت له، فقال لى: تفتكر مين اللى عمل كدا؟ فقلت له: ناس من حماس لأنى أعرفهم كويس؟ فسكت المشير، وقال لى: ألف سلامة عليك.
فى المستشفى تعرض المجند الذى كتب الله له عمرا جديدا إلى حالة نفسية صعبة، كان يحلم ليلا بكوابيس، وفى النهار ينهار من شدة البكاء، وطلب المجند بنفسه أن يتم تحويله إلى مستشفى للطب النفسى، ولبت القوات المسلحة طلبه، وأرسلته إلى أحد المستشفيات النفسية حتى تماثل للشفاء.
ويرى المجند أن القوات المسلحة لم تقصر معه على الإطلاق، حيث أحالته للتقاعد، ورصدت له معاشا شهريا وأعطته مكافأة، لكن ما يضيق به صدر المجند هو أنه لم يقدم أحد للمحاكمة بسبب مقتل هؤلاء الجنود من الذين اعتدوا على زملائه وقتلوهم، كما يرى أن محمد مرسى قصر فى حق الجنود المصريين، ويقول «بعد ثورة 30 يونيو شعرت أن الإخوان ومرسى مسئولون عما حدث لزملائى و متورطون فى دمهم، والدليل محمد البلتاجى دلوقتى قال إن الثانية اللى هيرجع فيها مرسى الضرب فى سيناء هيقف».
امتلأت أطباق الإفطار فى رمضان بدماء زملائى وكلنا قصّرنا فى حقهم.. و«الصول» طارق استشهد بجوار المصحف الذى كان يقرأ فيه
انتهت رواية المجند، وكما أكدت الروايات أن المدرعة وسيارة الملثمين اتجهت إلى معبر كرم أبوسالم وقامت باقتحام البوابة وكسرها وتسللت إلى الحدود الإسرائيلية، وكما شوهد فى الفيديو الذى بثته قوات الاحتلال الإسرائيلى، قامت قوات الاحتلال بقصف المدرعة من طائرة مقاتلة وقتلت كل من داخل المدرعة، واستشهد الجندى البطل الذى قاومهم ورفض تشغيل المدرعة.
المصدر جريدة الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق